القائمة الرئيسية

الصفحات

مراجعة رواية الفقراء- فيودور دوستويفسكي





رسائل هانئة


ماذا يمكن أن تصير حياة الإنسان في هذا العالم لمجرد أنه وُلد في عائلة فقيرة بائسة! إنه ليشق على قلب المرء أن يسمع أحداً ما يطلب صدقة ثم يكون مُضطراً أن يمضي دون أن يُعطى شيئاً، مكتفياً بأن يقول للسائل: " الله يعطيك". إن المرء إنما يكون مضطراً لأنه هو نفسه لا يملك شيئاً.


ماكار دييفو شكين.. موظف حكومي يعمل ناسخ في إحدى المؤسسات العامة، وفرفارا أكسييفيا أو ماتوشكا الفتاة البائسة التي تعمل بالحياكة لتغطي نفقاتها من كسب قوتها، تجمعهما الظروف القاسية وقلة المال، وما يُعانيه المرء حين يكون قوت يومه لا يكفيه.

يتبادل " دييفو شكين" و "ماتوشكا" الرسائل التي يُسميها " ماكار" رسائل سعيدة هانئة، حيث يسر كل واحد إلى صاحبه بخواطره و أفكاره، و يشاطر كل منهما صاحبه أفراحه وهمومه.

يسكن " دييفو شكين" في منزل قبالة " ماتوشكا" يُسميه بـ سفينة نوح بسبب كثرة الأشخاص المقيمين فيه وحاجة وجشع صاحبة المنزل للمال إلى درجة أن " ماكار" يسكن في ركن صغير من أركان المطبخ، ويدفع أجرة ذاك الركن سبعة روبلات، ويستغنى عن المشروبات كالشاي، ويحرم نفسه من أشياء كثيرة حتى يستطيع مواصلة الحياة بالشكل اللائق الذي يعهده عليه الناس، بل ويتحمل من نفقاته بعض المتطلبات والاحتياجات الضرورية التي تحتاج إليها " فرفارا"، تلك الفتاة المسكينة والتي يُعاملها كابنته التي لم يُنجبها، وحبيبته، وأنيسته، ملاكه ويمامته التي يحيا ويعيش ويعمل من أجلها.


حال دييفوشكين


وفي رسالة إليها كتب لها عن حاله فيقول:

كنت قبل أن ألقاكِ ياملاكي الرقيق، إنساناً منعزلاً، إنساناً لا يعيش حقاً، إنساناً يشبه أن يكون نائماً. 

كانوا جميعاً أولئك التعساء، يزعمون أن لي دماغاً مُتحجراً، كانوا يهزأون بي ويسخرون مني صراحة، حتى صرت احتقر نفسي بنفسي. كانوا يؤكدون أنني غنيَّ أبله،حتى صدقت أنني كذلك فعلاَ. فلما ظهرتِ لي .. أضأت وجودي كله، وغمرت بالنور حياتي المظلمة القاتمة. صار كل شيء يشع، وفزت بالطمأنينة الداخلية حين أدركت بفضلك أنني لست أسوأ من غيري. فليس يعوزني إلا البريق الخارجي وشىء من اللمعان والمظهر، ولكنني إنسان بالقلب والفكر. أنني امرؤ لا يصلح لشيء، لكنني سأحاول أن أكون مفيداً لكِ على الأقل. سأذلل جميع العقبات.


الفقراء

" إنه يتفق لنا أحياناً أن نصغر أنفسنا في نظر أنفسنا، أن نُخفض من قيمة أنفسنا، فما نعد أنفسنا شيئاً، وأن نهوى بذلك إلى القاع من الشعور بالتلاشي."


ماذا يعني أن ترسل امرأة كاذبة ابنها الهزيل إلى الشارع عامدة لتوهم الناس أنها مريضة. فما عسى أن يتعلم هذا الصبي الشقي؟ أي درس سيستمده من الحياة؟ سوف يقسو قلبه، هذا كل شىء. فهو يمشي ، يركض، ويستجدي الناس، والناس يمرون مسرعين لا يلتفتون إليه ولا يسمعون كلامه، ويسمع منهم عبارات : " امض … ابتعد .. اذهب ايها الولد الكذاب". فيمتلىء قلبه حقداً على البشر ، وما هي إلا فترة قصيرة حتى يتسلل المرض إلى جسمه تسلل الأفعى ليستقر في جسمه، ثم ينحني الموت عليه في ركن مُظلم وسخ يتمدد فيه بلا معنى.

  ليست مصاعب المال هي التي تقتلني، وإنما تقتلني هذه الإذلالات، وهذه الهمسات، وهذه الابتسامات، وهذه السخريات. إنني احاول ألا ينتبه إلىَّ أحد في المكتب، فانكمش في نفسي واختبىء من الناس، واتسلل إلى مكاني في المكتب تسللا حتى اتحاشى نظرات الآخرين.


عفاف بائس


ورغم البؤس والشقاء والحرمان الذي يعيش فيه دييفوشكين إلا إن بعض الناس المحيطين به يظنونه ثرياً باعتباره موظفاً حكومياً ولا يمد يمينه يطلب العون لغنى نفسه وقناعته، ويعود ذات يوم إلى المنزل وقد طفحت نفسه حزناً وتعباً، فيقصده زميله في السكن "جورشكوف" ليطلب منه بضع كوبكات ليسد بها رمق أسرته. ويكتب عنه لـ ماتوشكا فيقول : 

" هذا جورشكوف يدخل علىَّ يحييني ويقرع نعليه، ولكنه يبدو مرتبكاً، مضطرباً، لا يستطيع أن ينبس بكلمة. اجلسته وقدمت له الشاي، فاعتذر في أول الأمر ورفض، وانتهى أخيراً إلى تناول الكأس، وأراد أن يشربه بلا سكر، فلما أصررت على أن يُحليه بشىء من السكر جعل يعتذر من جديد، وظل يرفض قائلاً إنه لا حاجة للسكر، ثم رضي أن يلقى في الكأس قطعة صغيرة جداً من السكر، قال بعدها إن الشاي حلو جداً جداً.انظري إلى أي حد من المذلة يمكن أن يؤدي الفقر بالإنسان.



الرسالة الأخيرة


مستحيل .. لماذا تكون هذه الرسالة الأخيرة؟ لماذا هذه بعينها؟ أهكذا، فجأة؟. 

آه يا يمامتي، يابنيتي ، يا ماتوشكا.. لقد أخذوكِ بعيداً عني، لو انتزعوا قلبي من صدري لكان ذلك أهون من بعدك عني.

لقد استلمت رسالة منك، رسالة مليئة بالدموع! معنى هذا أنكِ لا تُحبين أن تُسافري، وأنهم يأخذوك عنوه. معنى هذا أنكِ ترحمينني وتشفقين عليَّ!

كيف ستعيشين الآن ؟ ومع من؟ لسوف تهد الكآبة قلبك الصغير ويحطمه الأسى تحطيماً. سوف تموتين وعندئذ يدفنوك في تلك الأرض الرطبة الباردة، في ذلك المكان النائي الغريب، ولن يكون ثمة أحد يبكيك.

لقد أحببتك أكثر من ضوء النهار، أحببتك كما لو كنتي ابنتي، أحببت فيك كل شىء ياماتوشكا ومن أجلك أنت وحدك كنت أعمل، وانسخ وثائق، وأمشي واتنزه، واكتب مشاعري على الورق رسائل صادقة، كل هذا لأنك كنتِ تسكنين قبالتي على مقربة مني.




اقتباسات

تمر بي لحظات أحب فيها أن أكون وحدي استسلم لحزني وكآبتي من دون أن يراني أحد. وقد أصبحت هذه اللحظات تكثر في حياتي يوما بعد يوم.


إن الخفة والطيش والاندفاع مع الهوى تؤدي بالشباب الذين لم يخبروا الحياة إلى الضياع.


فيدورا تقول إن على المرء أن يعرف كيف يمسك السعادة من شعرها.


ولأنني ياصديقتي لست إلا رجلا بسيطاً بغير ثقافة، اكتب مايخطر ببالي هكذا بغير تكلف.


أنت الان في اول موضوع
هل اعجبك الموضوع :
author-img
كاتبة ومدونة وباحثة في مجال القراءة والكُتب

تعليقات

محتويات المقال