القائمة الرئيسية

الصفحات

 

القراءة والتخمة العقلية

الكم المعرفى والتذكر

في حواره مع فايدروس قال سقراط : " قال تحوت لتاموز : هاك أيها الملك معرفه ستجعل المصريين أحكم وأكثر قدرة على التذكر، لقد اكتشفت سر الحكمة والذاكرة" فأجاب الملك : " يا تحوت يا سيد الفنون الذي لا مثيل له : هناك رجل قد أوتيَّ القدرة على اختراع الفن، وهناك رجل غيره هو الذي يحكم علي ماجلبه هذا الفن من ضرر أو نفع لمن يستخدمونه، والآن وبوصفك مُخترع الكتابة، أراك قد نسبت لها عكس نتائجها الصحيحة بدافع تحيزك لها؛ ذلك لأن هذا اختراع سينتهي ممن سيعلمونه إلي ضعف التذكر، لأنهم سيتوقفون عن تمرين ذاكرتهم حين يعتمدون علي المكتوب وبفضل ما يأتيهم من انطباعات خارجية غريبة عن أنفسهم وليس بما بباطن أنفسهم " 

أفلاطون - محاورة فايدروس 

تكشف تلك المحاورة عن أن وجود مساحة للكتابة أو للمكتوب سيُضعف التذكر والذاكرة "هذا اختراع سينتهي بمن سيعلمونه إلى ضعف التذكر، لأنهم سيتوقفون عن تمرين ذاكرتهم حين يعتمدون علي المكتوب"  فماذا عن الكم المعرفي والثقافي والمعلوماتي من الكتب والمجلات والأفلام والمسلسلات وخاصة بعد ظهور الشبكات الإجتماعية وما عليها من أشياء كثيرة تحتاج للمتابعة، والتي تجعل عقل القارىء يرفع أمامها رسالة " لا يجب تفويتها " فتحوله إلى قارىء شرهه مُصاب بالسمنة العقلية والتخمة الثقافية.


القرد المحشى

يُحكى أن رجلاً دخل محل للمعجنات مغموراً باللون الأرجواني الجدران، الستائر، السجاد، الطاولات، وأغطية الكراسي حتى المصابيح المُضاءة على الطاولات. جاء الطاهي مُسرعاً مُبتسماً يمسك بمنديل أرجواني ومئزرة من نفس اللون ليسأله : ماذا تود أن تتناول ؟ 

  • شيئاً حلواً.

فأعطاه قائمة مُغلفة باللون الأرجوانى وكلماتها مكتوبة باللون البرتقالي، تصفح الرجل القائمة بأسماء حلويات غريبه مثل " مانعه الصواعق " ، " الكمان الكسول" ، " الطنانة الشاردة الذهن " ، فأغلق القائمة ووضعها على الطاولة وقال للطاهي : من الصعب أن أقرر مع هذه الأسماء الغريبة والتي لا اعرف عنها شىء. أيمكنك أن تقترح طبقاً معين؟ ، أريد أن أتذوق طبقاً مميزاً .

وفجأة اختفت الابتسامة من وجه الطاهي وظهرت ملامح التعجب وقال له مُستنكراً : مميزة ؟! 

  • نعم، أحب تجربة الأمور الجديدة 

  • لدينا طبق مميز ولكنه ليس على القائمة. هل جربت يوماً طبق القرد المحشي ؟

كاد الرجل أن يموت من الضحك من اسم الطبق وكتم ضحكته وسأله : أهو من نوع الكعك ؟

  • نعم، نوع من الكعك بنكهة فريدة، وصفتها سرية ولا يمكنك تذوقها في مكان آخر.

  • ولماذا ليس مُدرجاً على القائمة ؟

  • بسبب ثمنه . إن ثمنه لا يُدفع بالنقود 

  • بمَ إذن ؟

  • بالأيام .

  • ولكن كيف لأحد أن يدفع ثمناً بالأيام ؟

  • إنه ممكن جداً، اختر يوماً تُريد محوه من ذاكرته ويُصبح كأنه يوم لم تعشه ويًصبح من مجموعتي.

  • تجمع أياماً !!

  • نعم . الزبون يمنحنى يوماً من حياته ليتناول بالمقابل حلوى استثنائية، الجميع لديه أيام يودون نسيانها.

وافق الرجل عن التنازل عن يوم مقابل أن يتناول حلوى القرد المحشى، والتي أحضرها علي الفور.. الطاهي وقال له : فكر في اليوم الذي ستدفع ثمنه قبل تناول أول قطعه من الحلوى وإلا سيتم محوَّ يوم بشكل عشوائى وقد تندم بعد ذلك على محوة من ذاكرتك .

بدأ الرجل يلتهم الكعكة التي بعد قليل لم يكن إلا الفتات منها في الصحن وقال للطاهي: لم أكن أعلم أنها لذيذة بهذا الشكل هل يمكن تناول طبق آخر من القرد المحشى ؟

  • لا 

  • لماذا؟

  • إن كعكة القرد المحشى ليست كعك عادى، إنه كعك يُولد الإدمان،كلما تناول منه أكثر زادت رغبت فيه، هذا المحل هو بمثابة حلم لكل شخص مُدمن على الحلويات.

  • أتخشى على صحتى ؟

  • القرد المحشى لن يضر بصحتك إنما ستبقي لديك أيام أقل فأقل من ماضيك. 

  • وما المشكلة ؟ وفيما احتاج الأيام؟ سأستمتع وأنا آكل أيامي. 

  • ليست فكرة جيدة أن تكون دون ماضي، إنني تركت لزبائني قرار التهام "القرد المحشى " إلي حد التخمه، وكنت سعيداً بمكسبى من جميع الأيام إلي أن بدأوا في الإختفاء .. الإختفاء مع كل قطعة من الكعك زادت من الساحة الفارغة بداخلهم إلي أن أصبحوا غير مرئيين .

سُلطة سحرية

لقد أصبحت الثقافة والمعرفة في عصر شبكات التواصل الإجتماعي كالكعكة المحشوة بمُخدر يحملك إلى عوالم أخري بكثافة لامثيل لها، كثافة تُصيب المرء بالشره المعرفي والتخمة العقلية شعارها " كثير من الثقافة والقليل من الجهد"، فهي تمنح الفرد "سُلطة سحرية " حيث إيجاد المعرفة والوصول إليها بمجرد ضغطه، وكلما سهل طريقة الوصول إلي المعلومة رسخ في العقل أكثر تذكر طريقة الوصول للمعلومة نفسها. 

إن شبكات التواصل الاجتماعي هدفها هو استهلاك وقت الفرد كالطاهي الذي يجمع الأيام مقابل تناول حلوى القرد المحشي وليست تغذية عقل القارىء، فحلوى "القرد المحشى " تدفع إلي إدمانها وتناول المزيد منها إلي حد الشرة ثم التُخمة التي تُحولهم إلي كائنات فارغة وغير مرئية بلا أيام أو ذكريات يتجسدون أو يتشكلون من خلالها.


الجزء الأول


الجزء الثالث .. قريباً


هل اعجبك الموضوع :
author-img
كاتبة ومدونة وباحثة في مجال القراءة والكُتب

تعليقات

3 تعليقات
إرسال تعليق
  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. مقالين مفيدين، صراحه لقد قمت باعطاء امثله وافيه ومهمه في ما يخص القراءه السطحيه فعلا فهي مجرد تخمه لا تفيد ولا تسمن من جوع، المشكل يكون في ان الانسان عندما يعتد على هذه القراءات يعتقد انه يثقف حاله وبينما هو الامر ليس كذلك حيث كل هذه العادات تؤثر على تركيبة الدماغ وتجعله مشتتا غير قابلا لا على التفكير ولى على الاستيعاب، شخصيا أشعر بفتور عقلي وحتى غباء بسبب قراءتي الغير منقطعة لمختلف المقالات والبوستات على الريديت، نعم تعلمت أمورا كثيرة لكن إن دققت فعلا في الناتج مقابلة بالوقت المستهلك المردود حتما ضئيل.

    ردحذف
    الردود
    1. نعم إنها معلومات كثيرة بمعرفة لدى الفرد قليلة.
      شكراً لك 🙂

      حذف

إرسال تعليق

محتويات المقال